
عاشتُ مِصرُنا قصةً مزعجةً قرابة العام والنصف. أحداثها مؤلمة، بطلها طفلٌ بريءٌ صغير لا حول له ولا قوة. شاءت الظروف أن يولد في مجتمعٍ قاسٍ لا يأبه لدموعه وصراخه وهو في مهد حياته، يسرق حاضره ويهدم مستقبله. جراح داخل نفس رقيقة، قد يصعب شفاءها، انفطار قلب صغير من كثرة البكاء.
لم تشفع لذاك المجتمع صراخ أبٌ وأمٌ عاقران مكلومان تعلقا بطفلٍ ربياه ست سنوات وهو لا يعرف أبوين سواهما. لم يشفع لهذا المجتمع صدمة طفل في هذا العمر المبكر، حين يعرف أنه بلا أبوين، بلا عائلة وبلا هوية. كيف كان ينام بعد انتزاعه من صدر أمه، مع من كان يحكي ويأنس، عمن يتحدث، أمرٌ لا يصدقه عقل ولا يقبله عدو في حرب.
لم تهتز له وزارة من المفترض فيها خدمة المجتمع وحمايته من أية كوارث تصيب أفراده خاصة الأطفال منهم. وزارة ما برحت أن تترك اللقطاء ينامون على الأرصفة وتحت الكباري وراحت تنزع طفل من حضن أمه بلا إنسانية! وكنت أتساءل كيف يغمض جفن الوزيرة التي أمرت بوضع الطفل في الملجأ وتغيير اسمه وديانته، لو كانت حسنة النية لأخذت رأي المفتي في ذات اليوم وأنهت إجراءات كفالة الطفل فوراً وأعادته لحضن أمه.
ثم رأينا محكمة إدارية تترك الطفل ممزق النفس لأكثر من عامٍ، وراحت في تصرفٍ ملتبس غير مفهوم تستيقظ عصر يومٍ لتكتشف فيه أنها غير مختصة بالأمر، على رغم أن ما صدر من الوزارة من قرار بتغيير اسم الطفل وديانته هو قرار إداريٌّ يخضع لرقابة محكمة القضاء الإداري. وعلى الرغم من أنها راحت تطلب من الطاعنين أوراق ومستندات وراحت تستمع لدفوعهم ودفاعهم الأمر الذي عد غريباً، ذهب معه البعض، بكل أسف، إلى اتهام المحامين الأجلّاء بالتقصير، وهنا لابد أن أشيد بهم جميعاً متذكراً ما علمه لي أبي، رحمه الله، من أن المحاماة بذل عناية وإن لم تتحقق النتيجة، وها هم شرفاء المحامين بذلوا العناية وحققوا النتيجة المرجوة.
لن أخوض في تفصيلات القضية وأحداثها التي يعرفها القاصي والداني وإنما أكتبُ عن درسٍ قاسي آلم المجتمع كله، خففت منه النيابة العامة التي قررت فوراً تسليم الطفل لمن وجداه على أن يبدئا فوراً إجراءات كفالة الطفل وفقا لقانون الأسرة البديلة ولابد هنا أن اشكر معالي المستشار المحامي العام لنيابات شمال القاهرة الكلية ورجاله والذي بفطنته وهو يمثل المجتمع اتخذ عدة إجراءات سريعة، أولها: إجراء تحليل الحمض النووي لسيدة اتُهمت زورا وبهتانا أنها أم الطفل وظهرت النتيجة سلبية. ثانيا، قرارا فورياً بأخذ رأي فضيلة مفتي الديار المصرية الذي أكد على ديانة الطفل من ديانة من وجده. ثالثاً، أمرت بإعطاء الطفل اسماً رباعيا مسيحيا. رابعا، اسقطت تهمة التزوير عن الأب واعتبرته حسن النية.
بعد أن أسدلت النيابة العامة الستار عن هذه القضية التي أحزنت كل طوائف المجتمع الأمر الآن أصبح في يد وزارة التضامن وعليه لي بعض المقترحات التي اود أن أطرحها حفاظاً على هذا الطفل. أولها، أتمنى أن تستطيع هذه الأسرة السفر إلى الخارج حيث أن القانون أعطى لوزارة التضامن الحق في الموافقة على سفر الأسرة الكافلة للخارج شريطة أخذ موافقة الوزارة الكتابية أولا وأن تتوجه الأسرة البديلة الكافلة خلال شهر من تاريخ وصولها للدولة التي سافرت إليها إلي اقرب بعثة دبلوماسية من محل إقامتها لتسجيل بياناتها وبيانات الطفل ووسيلة التواصل معها.
ثانيا، يجوز أن يحمل الطفل الاسم الذاتي للأب البديل الكافل ويحل محل الاسم الأول الوارد في شهادة ميلاده المميكنة أو لقب عائلة الأسرة البديلة الكافلة في نهاية اسمه ويثبت ذلك في ملف الطفل دون أن يترتب على ذلك أي إثر من أثار التبني. وهذا أمر جيد سيعطي للطفل إحساس أنه فرد من هذه العائلة.
ثالثا، يفضل أن يعطى للطفل اسم آخر غير شنودة أو يوسف فالطفل قد يبحث بعد سنوات قليلة على وسائل التواصل الاجتماعي وقد يجد اسمه ويقرأ ما حدث له ويتسبب في المزيد من الجراح النفسية. كما أهيب بالجميع إزالة صور الطفل من كل الصفحات والبرامج قدر الإمكان.
نصلي جميعا من أجل هذا الطفل ومن أجل كل أطفالنا الذين في حاجة شديدة لكفالتهم.