
“حد عن الشر وافعل الخير، واسكن إلى الأبد. لأن الرب يحب الحق، ولا يتخلى عن أتقيائه. إلى الأبد يُحفظون. أما نسل الأشرار فينقطع. الصديقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد” (مز37: 27-29).
التقوى تعني مخافة الله، وطبعا كلنا نعرف الآية الجميلة التي تقول “رأس الحكمة مخافة الله” (سي 16:1)، يعني بداية الحكمة أو أول دروس الحكمة أو أول طريق الحكمة أن الإنسان يسلك بالتقوى ويسلك بالمخافة. والمخافة تعني الإنسان يشعر دائما بحضور الله، وطبعا الكنيسة تزودنا ببعض الطقوس التي تساعدنا في هذه الحياة، مثلا حين نرشم الصليب قبل الأكل أو قبل أن نبدأ في عمل ما، فهذا يعني يقيننا بحضور الله. “رأس الحكمة مخافة الله” تعني أن الإنسان يشعر بحضور الله في كل مواقف حياته، وهذه نقطة جوهرية في حياة الإنسان، ويذكرنا هذا بما قاله القديس بولس الرسول في نهاية رسالته الأولى إلى كورنثوس: “اسهروا. إثبتوا في الإيمان. كونوا رجالا. تقووا. لتصر كل أموركم في محبة” (1كو16: 13-14). عيشوا بالتقوى، عيشوا بالمخافة، ولاحظ أنه ربطها بالسهر الروحي والثبات في الإيمان والنضوج (كونوا رجالا) ثم عيشوا بالتقوى، ويكمل بالصورة العامة (لتصر كل أموركم في محبة).
هذا الشكل الخماسي يضع أمامنا معاني مهمة عن حياة التقوى، يمكن أن نقربها من خلال بعض الأمثلة:
يوسف الصديق: وكيف تعرض لآلام وضيقات كثيرة، وكيف وُضع في السجن، وكيف تعرض لتجربة الإغراء في بيت فوطيفار، لكنه قال عبارة لإمرأة فوطيفار صالحة لكل الأجيال: “كيف اصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟” (تك 9:39)، كان يرى الله أمامه حتى وهو مبيع كعبد، مثله مثل داود النبي الذي قال: “جعلت الرب أمامي في كل حين,…”. هذا شكل من أشكال المخافة، أن أنظر حضور الله في كل موقف في كل عمل في كل شخص في كل مكان.
الفتية الثلاثة: حين كسروا قانون الملك ورفضوا السجود للتمثال الذهبي، فقُبض عليهم، ثم ألوقا في أتون النار، وقال لهم الملك مستهزئا: “من هو الإله الذي ينقذكم من يدي؟”، فأجابوه: “هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا..” وحين ألقوا في الأتون كانوا يتمشون في الأتون، الحبال تحترق وأجسادهم لم تمسسها النار ولا ملابسهم، هذا هو الله الحاضر الموجود.
إحدى المشكلات الكبيرة في حياة الإنسان وجود الخير ووجود الشر، وصار تعريف الخير أو تعريف الشر مرتبطا بالنفعية والمادية وبعض الأفكار الجديدة، فمثلا التعريف العالمي للشر: الشر هو فقط أن تؤذي الآخر، هذا التعريف خبيث، لأن مثلا يعتبر أن العلاقات الغير شرعية والعلاقات المنحرفة خارج إطار الزواج ليس فيها إيذاء للآخر، وبالتالي ليست شرا! أو الجنسية المثلية وما شابهها… كذلك النهم أو الطمع والاستهلاك الغير مبرر.
كل هذه مفاهيم علمانية أو عالمية لا نقبلها ولا تقبلها مسيحيتنا على الإطلاق، لذلك سأحصر الموضوع في ثلاثة أسئلة، ونحاول أن نجيبها لنفهم كيف يعيش الإنسان بالتقوى.
- ما هو الخير؟ وما هو الشر؟
الخير هو الله وكل ما يصنعه الله، عالم الله هو عالم الخير، لذلك نقول عن الله أنه كلي الخير. والتحية اليومية “صباح الخير” تعني الصباح الذي منحه لنا الله كلي الخير. كلمة خير جاءت كثيراً في الكتاب المقدس بأوصاف متعددة من أشهرها وصف صالح وصلاح، “سبحوا الرب لأنه صالح لأنه خير، رنموا لإسمه لأن ذاك حلو” (مز135). يقول يعقوب الرسول: “كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق، نازلة من عند أبي الأنوار، الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران” (يعقوب 17:1)، كل خير نازل من فوق، كل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عن أبي الأنوار.
اختصاراً: الخير هو الله، والخير أن توجد في عالم الله، عالم الوصية، عالم الفضيلة.
الشر حسب مفاهيم العالم هو أن تتسبب في أذى للآخر، لكن الشر في مفهومه المسيحي هو التخلي عن الخير، عدم فعل الخير، ترك مصدر الخير أي الله والبُعد عنه.
إذاً البعد عن الله هو الشر، الدخول في عالم الخطية هو الشر، مثلما يبعد الإنسان عن مصدر النور فيصير في الظلام. الظلام ليس له وجود فعلي، لكن غياب النور هو الظلمة، مثلما غياب الحياة هو الموت.. وبالتالي حضور الله هو حضور الخير.
- كيف نشأ الخير والشر؟
الإجابة نجدها في قصة الخلق، حين أغوت الحية المرأة أن تأكل من الشجرة، فيصير آدم وحواء كالله عارفين الخير والشر (تك 3). نشأ الشر إذن حين خدعت الحية حواء، وأغرتها بالأكل من الشجرة، وحتي اليوم يغري الشيطان الإنسان بأشكال وأنواع متعددة.
ظهر من هذه القصة أن الله صانع الخيرات، صنع الكون وكل الخير الذي فيه، ومنح الخير للإنسان.
حين استمع الإنسان إلى صوت الشر انكشف عنهما ستر الله وعلما أنهما عريانان، صورة النقاوة التي كانت في داخلهما ضاعت، شوهتها الخطية، في تلك اللحظة كسر آدم وحوار الوصية، وكسرا قلب الله، ابتعد الإنسان عن صوت الله ودخل في عالم الشر والخطية.. هكذا ظهر الشر في التاريخ الإنساني، وصار الشيطان من تلك اللحظة “عدو الخير”، وعدو الإنسان”، وعدو الخير للإنسان.
لذلك إياك أن تفكر ان الله يصنع شراً، الله لا يصنع شراً أبداً، ويقول القديس يعقوب الرسول: “لا يقل أحد إذا جُرب: “إني أجرب من قبل الله”، لأن الله غير مجرب بالشرور، وهو لا يجرب أحدا” (يعقوب 13:1).
تذكر جيدا أن الله صانع الخيرات، وأن الشيطان هو عدو الخير، والشر هو البعد عن الخير أي البعد عن الله.
- لماذا ينبغي أن أصنع الخير؟
الإنسان من الله، ومصدر حياته من الله، فهو يعيش في دائرة الخير حتى يصير له النصيب الصالح، وعندما يترك الحياة الأرضية وينتقل إلى الحياة السماوية يصير في معية الله.
لماذا يجب أن أعمل الخير؟ لسبب بسيط جداً “أما الذين بصبر في العمل الصالح يطلبون المجد والكرامة والبقاء، في الحياة الأبدية. ومجد وكرامة وسلام لكل من يفعل الصلاح” (رو 10:2). لكي تكون في معية الله ومعية القديسين والأبرار والصديقين، لكي تحيا في سلام، فالخطية تنزع السلام، والشرير عندما يترك هذه الأرض فنصيبه الهلاك “شدة وضيق، على كل نفس إنسان يفعل الشر: اليهودي أولا ثم اليوناني” (رو9:2).
الخلاصة أيها الأحباء: إذا أردت أن تعيش بالحكمة تعلم هذا الدرس الذي هو رأس الدروس، لأن رأس الحكمة وبداية الحكمة هي مخافة الله، عش بالتقوى.
لإلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد، آمين.